فصل: مطلب فِي كَرَاهَةِ مَسْحِ الْأَصَابِعِ وَالسِّكِّينِ فِي الْخُبْزِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب **


 مطلب فِي كَرَاهَةِ مَسْحِ الْأَصَابِعِ وَالسِّكِّينِ فِي الْخُبْزِ

الْخَامِسُ‏:‏ يُكْرَهُ مَسْحُ الْأَصَابِعِ وَالسِّكِّينِ فِي الْخُبْزِ ‏.‏

وَأَنْ يَأْكُلَ مَا انْتَفَخَ مِنْ الْخُبْزِ وَوَجْهَهُ وَيَتْرُكَ الْبَاقِيَ ‏.‏

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ‏:‏ وَلَا يُحْوِجُ رَفِيقَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ‏:‏ كُلْ ‏,‏ بَلْ يَنْبَسِطُ وَلَا يَتَصَنَّعُ بِالِانْقِبَاضِ ‏.‏

وَلَا يَفْعَلُ مَا يَسْتَقْذِرُهُ مِنْ غَيْرِهِ ‏,‏ فَلَا يَنْفُضُ يَدَهُ فِي الْقَصْعَةِ ‏,‏ وَلَا يُقَدِّمُ رَأْسَهُ إلَيْهَا عِنْدَ وَضْعِ اللُّقْمَةِ فِي فِيهِ ‏.‏

وَإِذَا خَرَجَ مِنْ فَمِهِ شَيْءٌ لِيَرْمِيَ بِهِ صَرَفَ وَجْهَهُ عَنْ الطَّعَامِ وَأَخَذَهُ بِيَسَارِهِ ‏,‏ وَلَا يَغْمِسُ بَقِيَّةَ اللُّقْمَةِ الَّتِي أَكَلَ مِنْهَا فِي الْمَرَقَةِ ‏,‏ وَلَا يَغْمِسُ اللُّقْمَةَ الدَّسِمَةَ فِي الْخَلِّ وَلَا الْخَلَّ فِي الدَّسِمَةِ فَقَدْ يَكْرَهُهُ غَيْرُهُ انْتَهَى ‏.‏

وَكَذَا هَنْدَسَةُ اللُّقْمَةِ ‏,‏ وَهُوَ أَنْ يَقْضِمَ بِأَسْنَانِهِ بَعْضَ أَطْرَافِهَا ‏,‏ ثُمَّ يَضَعَهَا فِي الْإِدَامِ قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ‏:‏ وَمِنْ الْأَدَبِ أَنْ لَا يُكْثِرَ النَّظَرَ إلَى وُجُوهِ الْآكِلِينَ ‏;‏ لِأَنَّهُ مِمَّا يُحْشِمُهُمْ ‏,‏ وَهَذَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِنَا‏:‏ وَغَضُّ بَصَرِهِ عَنْ جَلِيسِهِ ‏,‏ وَكَذَا يُكْرَهُ الْكَلَامُ بِمَا يَقْذُرُ ‏,‏ أَوْ يُضْحِكُ ‏,‏ أَوْ يُحْزِنُ

 مطلب لَا يُشْرَعُ تَقْبِيلُ الْخُبْزِ

وَفِي بَعْضِ آدَابِ إحْضَارِ الطَّعَامِ لَا يُشْرَعُ تَقْبِيلُ الْخُبْزِ كَمَا جَزَمَ بِهِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ‏,‏ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ رضي الله عنه ‏.‏

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ‏:‏ لَا يُشْرَعُ تَقْبِيلُ الْجَمَادَاتِ إلَّا مَا اسْتَثْنَى الشَّرْعُ مِنْ تَقْبِيلِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ ‏.‏

وَلَا بَأْسَ بِوَضْعِ الْخَلِّ ‏,‏ وَالْبُقُولِ عَلَى الْمَائِدَةِ غَيْرَ الثُّومِ ‏,‏ وَالْبَصَلِ وَمَا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

 مطلب يُكْرَهُ أَنْ يَضَعَ النَّوَى مَعَ التَّمْرِ عَلَى الطَّبَقِ

وَبَيَانُ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ السَّابِعُ‏:‏ رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَضَعَ النَّوَى مَعَ التَّمْرِ عَلَى الطَّبَقِ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ ‏.‏

وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَأَبُو يَعْلَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بِشْرٍ رضي الله عنه قَالَ ‏"‏ أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَلْقَتْ لَهُ أُمِّي قَطِيفَةً فَجَلَسَ عَلَيْهَا ‏,‏ فَأَتَتْهُ بِتَمْرٍ فَجَعَلَ يَأْكُلُ وَيَقُولُ بِالنَّوَى هَكَذَا يَضَعُ النَّوَى عَلَى السَّبَّابَةِ ‏,‏ وَالْوُسْطَى ‏"‏ وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ ‏"‏ أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتَمْرٍ عَتِيقٍ ‏,‏ فَجَعَلَ يُفَتِّشُهُ يُخْرِجُ السُّوسَ مِنْهُ ‏"‏ ‏.‏

وَفِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ بَحْثَانِ‏:‏ الْأَوَّلُ فِي إلْقَائِهِ صلى الله عليه وسلم النَّوَى بِأُصْبُعَيْهِ ‏.‏

قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ‏:‏ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ نَهْيُهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَجْعَلَ الْآكِلُ النَّوَى عَلَى الطَّبَقِ ‏,‏ وَعَلَّلَهُ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ بِأَنَّهُ قَدْ يُخَالِطُهُ الرِّيقُ وَرُطُوبَةُ الْفَمِ‏:‏ فَإِذَا خَالَطَ مَا فِي الطَّبَقِ عَافَتْهُ الْأَنْفُسُ ‏.‏

انْتَهَى ‏.‏

قَالَ فِي الْآدَابِ‏:‏ قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي آدَابِ الْأَكْلِ‏:‏ لَا يَجْمَعُ بَيْنَ النَّوَى وَالتَّمْرِ فِي طَبَقٍ ‏,‏ وَلَا يَجْمَعُهُ فِي كَفِّهِ ‏,‏ بَلْ يَضَعُهُ مِنْ فِيهِ عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ ‏,‏ ثُمَّ يُلْقِيهِ ‏,‏ وَكَذَا كُلُّ مَا لَهُ عَجَمٌ وَثُفْلٌ ‏.‏

وَهَذَا مَعْنَى كَلَامِ الْآمِدِيِّ ‏.‏

قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ‏:‏ الْعَجَمُ بِالتَّحْرِيكِ النَّوَى وَكُلُّ مَا كَانَ فِي جَوْفِ مَأْكُولٍ كَالزَّبِيبِ ‏,‏ الْوَاحِدَةُ عَجَمَةٌ مِثْلُ قَصَبَةٍ وَقَصَبٍ ‏.‏

قَالَ يَعْقُوبُ‏:‏ الْعَامَّةُ تَقُولُ عَجْمٌ بِالتَّسْكِينِ ‏.‏

وَالثُّفْلُ بِضَمِّ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَسُكُونِ الْفَاءِ مَا ثَقُلَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ‏.‏

قَالَ الْيُونِينِيُّ فِي مُخْتَصَرِ الْآدَابِ‏:‏ وَهَذَا الْأَدَبُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - بِسَبَبِ مُبَاشَرَةِ الرُّطُوبَةِ الْمُنْفَصِلَةِ ‏,‏ وَالْعُرْفُ ‏,‏ وَالْعَادَةُ خِلَافُ ذَلِكَ ‏,‏ لَكِنَّ الْحُكْمَ لِلشَّرْعِ لَا لِلْعُرْفِ الْحَادِثِ ‏,‏ وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ حَمَّادٍ‏:‏ رَأَيْتُ الْإِمَامَ أَحْمَدَ رضي الله عنه يَأْكُلُ وَيَأْخُذُ النَّوَى عَلَى ظَهْرِ إصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ ‏,‏ وَالْوُسْطَى وَرَأَيْته يَكْرَهُ أَنْ يَجْعَلَ النَّوَى مَعَ التَّمْرِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ ‏.‏

ذَكَرَهُ الْخَلَّالُ فِي جَامِعِهِ وَصَاحِبُهُ أَبُو بَكْرٍ

 مطلب لَا بَأْسَ بِتَفْتِيشِ التَّمْرِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ إنْ ظَهَرَ أَوْ ظَنَّ أَنَّ فِيهِ دُودًا

الثَّانِي‏:‏ فِي تَفْتِيشِهِ صلى الله عليه وسلم التَّمْرَ ‏,‏ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّهْيُ عَنْ شَقِّ التَّمْرَةِ عَمَّا فِي جَوْفِهَا ‏.‏

فَإِنْ صَحَّ فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إذَا كَانَ التَّمْرُ جَدِيدًا ‏.‏

وَاَلَّذِي رَوَيْنَاهُ فِي الْعَتِيقِ‏:‏ قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ ‏,‏ وَقَالَ الْآمِدِيُّ‏:‏ لَا بَأْسَ بِتَفْتِيشِ التَّمْرِ وَتَنْقِيَتِهِ ‏.‏

قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ‏:‏ وَكَلَامُهُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى مَا فِيهِ شَيْءٌ ‏,‏ وَهُوَ الْعَتِيقُ ‏.‏

قَالَ الْيُونِينِيُّ‏:‏ مَعَ أَنَّهُ صَادِقٌ عَلَى مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِمَّا لَا يُؤْكَلُ مَعَهُ شَرْعًا وَعُرْفًا ‏.‏

وَمِثْلُهُ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ فَاكِهَةٍ وَغَيْرِهَا ‏.‏

قَالَ الْيُونِينِيُّ‏:‏ قَدْ دَلَّ الْخَبَرُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يُتَحَرَّى وَيُقْصَدُ غَالِبًا ‏,‏ بَلْ إنْ ظَهَرَ شَيْءٌ أَوْ ظَنَّهُ أَزَالَهُ وَإِلَّا بَنَى الْأَمْرَ عَلَى الْأَصْلِ ‏,‏ وَهُوَ السَّلَامَةُ ‏.‏

وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه‏:‏ لَا أَعْلَمُ بِتَفْتِيشِ التَّمْرِ إذَا كَانَ فِيهِ الدُّودُ بَأْسًا ‏,‏ وَيُبَاحُ أَكْلُ فَاكِهَةٍ مُسَوِّسَةٍ وَمُدَوِّدَةٍ بِدُودِهَا ‏,‏ وَبَاقِلَّا بِذُبَابِهِ ‏,‏ وَخِيَارٍ وَقِثَّاءٍ وَحُبُوبٍ وَخَلٍّ ‏.‏

ذَكَرَهُ فِي الرِّعَايَةِ ‏,‏ وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِهِ فِي التَّلْخِيصِ ‏.‏

وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يُبَاحُ أَكْلُهُ مُفْرَدًا ‏.‏

قَالَهُ فِي الْآدَابِ ‏,‏ وَقَالَ‏:‏ وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ فِيهِ وَجْهَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ‏:‏ الْإِبَاحَةَ وَعَدَمَهَا ‏.‏

وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي بَحْثِ مَسْأَلَةِ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ أَنَّ ذَلِكَ ‏,‏ وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ ‏.‏

انْتَهَى قُلْت‏:‏ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْمَذْهَبُ إبَاحَةُ أَكْلِ الْفَاكِهَةِ وَنَحْوِهَا بِدُودِهَا تَبَعًا ‏.‏

وَيَحْرُمُ أَكْلُ دُودِهَا مُنْفَرِدًا عَنْهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

 مطلب هَلْ يُكْرَهُ أَكْلُ اللَّحْمِ نِيئًا أَمْ لَا‏؟‏

النَّوْعُ الثَّامِنُ‏:‏ هَلْ يُكْرَهُ أَكْلُ اللَّحْمِ نِيئًا ‏,‏ أَوْ لَا‏؟‏ جَزَمَ فِي الْإِقْنَاعِ بِالْكَرَاهِيَةِ وَعِبَارَتُهُ‏:‏ وَتُكْرَهُ مُدَاوَمَةُ أَكْلِ لَحْمٍ وَأَكْلُ لَحْمٍ مُنْتِنٍ وَنِيءٍ انْتَهَى ‏.‏

وَصَرَّحَ فِي الْمُنْتَهَى بِعَدَمِ الْكَرَاهَةِ فِي النِّيءِ ‏,‏ وَالْمُنْتِنِ ‏.‏

قَالَ شَارِحُهُ نَصًّا وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافَ الْإِقْنَاعِ ‏,‏ وَكَذَا الْغَايَةُ صَرَّحَ بِعَدَمِ الْكَرَاهَةِ وَلَمْ يُشِرْ لِلْخِلَافِ ‏,‏ وَكَانَ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِاشْتِرَاطِهِ ذَلِكَ فِي خُطْبَتِهِ ‏,‏ وَفِي الْفُرُوعِ‏:‏ وَلَا بَأْسَ بِلَحْمٍ نِيئٍ نَقَلَهُ مُهَنَّا ‏,‏ وَلَحْمٍ مُنْتِنٍ ‏.‏

نَقَلَهُ أَبُو الْحَارِثِ ‏.‏

وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ فِيهِمَا‏:‏ يُكْرَهُ وَجَعَلَهُ فِي الِانْتِصَارِ فِي الثَّانِيَةِ اتِّفَاقًا ‏.‏

وَذَكَرَ فِي الْإِنْصَافِ عِبَارَةَ الْفُرُوعِ بِحُرُوفِهَا وَزَادَ‏:‏ قُلْت‏:‏ الْكَرَاهَةُ فِي اللَّحْمِ الْمُنْتِنِ أَشَدُّ ‏.‏

 مطلب فِيمَا يُقَالُ لِلْآكِلِ وَالشَّارِبِ

التَّاسِعُ‏:‏ فِيمَا يُقَالُ لِلْآكِلِ وَالشَّارِبِ‏:‏ قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي آدَابِهِ‏:‏ أَمَّا الدُّعَاءُ لِلْآكِلِ أَوْ الشَّارِبِ فَلَمْ أَجِدْ الْأَصْحَابَ ذَكَرُوهُ وَلَا ذِكْرَ لَهُ فِي الْأَخْبَارِ ‏,‏ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ ‏.‏

‏,‏ وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْمُتَجَشِّئَ لَا يُجَابُ بِشَيْءٍ ‏,‏ فَإِنْ حَمِدَ اللَّهَ دُعِيَ لَهُ ‏.‏

وَقَوْلُ الْإِمَامِ ابْنِ عَقِيلٍ لَا يُعْرَفُ فِيهِ سُنَّةٌ ‏,‏ وَهُوَ عَادَةٌ مَوْضُوعَةٌ يُوَافِقُ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ ‏.‏

وَلَكِنَّ ذِكْرَهُمْ أَنَّ الْحَامِدَ يُدْعَى لَهُ ‏,‏ مَعَ قَوْلِ ابْنِ عَقِيلٍ مَا قَالَ ‏,‏ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُدْعَى لِلْآكِلِ وَالشَّارِبِ بِمَا يُنَاسِبُ الْحَالَ ‏.‏

فَظَهَرَ أَنَّهُ هَلْ يُدْعَى لِلْآكِلِ وَالشَّارِبِ أَمْ لَا‏؟‏ أَمْ إنْ حَمِدَ اللَّهَ ‏,‏ أَمْ لِلشَّارِبِ‏؟‏ أَقْوَالٌ مُتَوَجِّهَةٌ ‏.‏

وَطَرِيقُ السَّلَفِ هِيَ الصَّوَابُ ‏,‏ وَالْقَوْلُ بِالِاسْتِحْبَابِ مُطْلَقًا هُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ ‏,‏ وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ مِنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه فِي قَوْلِهِ لِغَيْرِهِ يَوْمَ الْعِيدِ تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْك ‏.‏

فَعَنْهُ لَا بَأْسَ ‏,‏ وَهِيَ أَشْهَرُ كَالْجَوَابِ وَعَنْهُ مَا أَحْسَنَهُ إلَّا أَنْ يَخَافَ الشُّهْرَةَ ‏,‏ وَنَظِيرُ ذَلِكَ لِمَنْ خَرَجَ مِنْ حَمَّامٍ بِمَا يُنَاسِبُ الْحَالَ ‏.‏

وَرَدُّ الْجَوَابِ مَبْنِيٌّ فِي كُلِّ ذَلِكَ عَلَى حُكْمِ الِابْتِدَاءِ ‏,‏ وَأَنَّهُ أَسْهَلُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه فِي رَدِّ الْجَوَابِ الدَّاعِي يَوْمَ الْعِيدِ ‏,‏ وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ يُتَوَجَّهُ فِي التَّهْنِئَةِ بِالْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ ‏.‏

وَفِي كِتَابِ الْهَدْيِ لِلْإِمَامِ الْمُحَقِّقِ ابْنِ الْقَيِّمِ - طَيَّبَ اللَّهُ ثَرَاهُ -‏:‏ يَجُوزُ ‏.‏

فَأَمَّا التَّهْنِئَةُ بِنِعْمَةٍ دِينِيَّةٍ تَجَدَّدَتْ فَتُسْتَحَبُّ ‏,‏ لِقِصَّةِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ ‏{‏إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا‏}‏ الْآيَاتِ ‏,‏ قَالَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ‏,‏ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

 مطلب فِي الدُّعَاءِ لِرَبِّ الطَّعَامِ

الْعَاشِرُ‏:‏ فِي الدُّعَاءِ لِرَبِّ الطَّعَامِ ‏.‏

وَتَقَدَّمَ بَعْضُهُ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَاءَ إلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ ‏,‏ فَجَاءَ بِخُبْزٍ وَزَيْتٍ فَأَكَلَ ‏,‏ ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أَفْطَرَ عِنْدَكُمْ الصَّائِمُونَ ‏,‏ وَأَكَلَ طَعَامَكُمْ الْأَبْرَارُ ‏,‏ وَصَلَّتْ عَلَيْكُمْ الْمَلَائِكَةُ ‏"‏ وَكَلَامُهُ فِي التَّرْغِيبِ أَنَّهُ جَعَلَ هَذَا دُعَاءً ‏.‏

وَاسْتُحِبَّ الدُّعَاءُ لِكُلِّ مَنْ أَكَلَ طَعَامَهُ ‏.‏

وَمُقْتَضَى كَلَامِ سَيِّدِي عَبْدِ الْقَادِرِ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ إنَّمَا يَقُولُ هَذَا إذَا أَفْطَرَ ‏.‏

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ‏:‏ وَهُوَ أَظْهَرُ ‏,‏ وَكَلَامُ غَيْرِهِ يُوَافِقُ مَا فِي التَّرْغِيبِ ‏.‏

‏,‏ وَقَالَ الْآمِدِيُّ وَجَمَاعَةٌ‏:‏ يُسْتَحَبُّ إذَا أَكَلَ عِنْدَ الرَّجُلِ طَعَامًا أَنْ يَدْعُوَ لَهُ ‏.‏

وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ الْخَبَرُ الْمَشْهُورُ ‏"‏ مَنْ أَسْدَى إلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ ‏,‏ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَادْعُوا لَهُ ‏"‏ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

 مطلب فِي تَحْرِيضِ النَّبِيلِ عَلَى عَدَمِ التَّثْقِيلِ

وَأَنَّ التَّثْقِيلَ أَثْقَلُ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ الْحِمْلِ الثَّقِيلِ الْحَادِيَ عَشَرَ‏:‏ فِي تَحْرِيضِ النَّبِيلِ عَلَى عَدَمِ التَّثْقِيلِ ‏.‏

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ ‏{‏فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا‏}‏ الْآيَةَ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ‏:‏ أُنْزِلَتْ فِي الثُّقَلَاءِ ‏.‏

قَالَ السُّدِّيُّ‏:‏ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الثُّقَلَاءَ فِيهَا ‏,‏ فَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ أَنْ لَا يُثَقِّلَ ‏,‏ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ أَذًى لَهُ وَلِغَيْرِهِ ‏,‏ وَالْمُؤْمِنُ سَهْلٌ هَيِّنٌ لَيِّنٌ ‏.‏

وَقَدْ سُئِلَ جَعْفَرٌ هَلْ يَكُونُ الْمُؤْمِنُ بَغِيضًا‏؟‏ قَالَ لَا وَلَكِنْ يَكُونُ ثَقِيلًا ‏.‏

‏,‏ وَقَدْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه إذَا اسْتَثْقَلَ رَجُلًا قَالَ‏:‏ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلَهُ وَأَرِحْنَا مِنْهُ ‏,‏ وَكَانَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ إذَا رَأَى مَنْ يَسْتَثْقِلُهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إنَّا مُؤْمِنُونَ ‏"‏ ‏.‏

وَقِيلَ لِأَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ‏:‏ لِأَيِّ شَيْءٍ يَكُونُ الثَّقِيلُ أَثْقَلَ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ الْحِمْلِ الثَّقِيلِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لِأَنَّ الثَّقِيلَ يَقْعُدُ عَلَى الْقَلْبِ ‏,‏ وَالْقَلْبُ لَا يَحْتَمِلُ مَا يَحْمِلُ الرَّأْسُ ‏,‏ وَقَالَتْ فَلَاسِفَةُ الْهِنْدِ‏:‏ النَّظَرُ إلَى الثَّقِيلِ يُورِثُ الْمَوْتَ فَجْأَةً ‏,‏ وَقَالَ ثَقِيلٌ لِمَرِيضٍ‏:‏ مَا تَشْتَهِي‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَنْ لَا أَرَاكَ ‏.‏

فَعَلَيْك بِالتَّخْفِيفِ وَدَعْ التَّثْقِيلَ عَلَى الْمُضِيفِ وَغَيْرِهِ ‏,‏ فَإِنَّهُ رَذَالَةٌ وَوَبَالٌ ‏,‏ نَعَمْ إنْ دَلَّتْ قَرِينَةٌ عَلَى الْإِذْنِ فِي الْجُلُوسِ بَعْدَ الطَّعَامِ جَازَ ذَلِكَ ‏,‏ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ‏.‏

 مطلب فِي وُجُوبِ ضِيَافَةِ الْمُسْلِمِ الْمُسَافِرَ النَّازِلَ بِهِ فِي الْقُرَى دُونَ الْأَمْصَارِ

الثَّانِيَ عَشَرَ‏:‏ ضِيَافَةُ الْمُسْلِمِ الْمُسَافِرَ الْمُجْتَازَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِ النَّازِلِ بِهِ فِي الْقُرَى لَا الْأَمْصَارِ مَجَّانًا يَوْمًا وَلَيْلَةً ‏,‏ وَذَلِكَ قَدْرُ كِفَايَتِهِ مَعَ عَدَمٍ ‏.‏

وَفِي الْوَاضِحِ ‏.‏

وَلِفَرَسِهِ تِبْنٌ لَا شَعِيرٌ ‏,‏ وَلَا تَجِبُ لِذِمِّيٍّ عَلَى مُسْلِمٍ إذَا اجْتَازَ بِهِ ‏,‏ فَإِنْ أَبَى الْمُسْلِمُ مِنْ ضِيَافَةِ الْمُسْلِمِ فَلِلضَّيْفِ طَلَبُهُ بِالضِّيَافَةِ عِنْدَ حَاكِمٍ ‏,‏ فَإِنْ تَعَذَّرَ الْحَاكِمُ جَازَ لِلضَّيْفِ الْأَخْذُ مِنْ مَالِ الْمُضِيفِ بِقَدْرِ ضِيَافَتِهِ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ ‏,‏ هَذَا الْمَذْهَبُ بِلَا رَيْبٍ ‏.‏

وَتُسَنُّ الضِّيَافَةُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ‏,‏ وَالْمُرَادُ يَوْمَانِ مَعَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ كَمَا نَصُّوا عَلَيْهِ ‏,‏ وَمَا زَادَ عَنْ الثَّلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَدَقَةٌ ‏.‏

وَدَلِيلُ مَا قُلْنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ ‏,‏ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ ‏"‏ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ‏.‏

وَفِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما ‏"‏ ‏,‏ وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ‏"‏ ‏,‏ وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ ‏.‏

قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ‏,‏ وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ‏"‏ أَيْ لِزُوَّارِك وَأَضْيَافِك ‏.‏

يُقَالُ لِلزَّائِرِ زَوْرٌ بِفَتْحِ الزَّايِ ‏,‏ سَوَاءٌ فِيهِ الْوَاحِدُ ‏,‏ وَالْجَمْعُ ‏.‏

وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ وَصَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ وَالتَّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ ‏,‏ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ ‏,‏ جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ ‏,‏ وَالضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ ‏,‏ فَمَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ ‏.‏

وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَثْوِيَ عِنْدَهُ حَتَّى يُحْرِجَهُ ‏"‏ قَالَ الْخَطَّابِيُّ‏:‏ مَعْنَاهُ لَا يَحِلُّ لِلضَّيْفِ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَهُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْعَاءٍ مِنْهُ حَتَّى يَضِيقَ صَدْرُهُ فَيَبْطُلَ أَجْرُهُ ‏.‏

وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ‏,‏ وَالْبَزَّارُ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ‏:‏ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ‏"‏ لِلضَّيْفِ عَلَى مَنْ نَزَلَ بِهِ مِنْ الْحَقِّ ثَلَاثٌ ‏,‏ فَمَا زَادَ فَهُوَ صَدَقَةٌ ‏.‏

وَعَلَى الضَّيْفِ أَنْ يَرْتَحِلَ لَا يُؤَثِّمُ أَهْلَ الْمَنْزِلِ ‏"‏ وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ ‏,‏ وَالْحَاكِمُ ‏,‏ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ أَيُّمَا ضَيْفٍ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَأَصْبَحَ الضَّيْفُ مَحْرُومًا فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَدْرِ قِرَاهُ وَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ ‏"‏ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي كَرِيمَةَ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا ‏"‏ لَيْلَةُ الضَّيْفِ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ‏.‏

فَمَنْ أَصْبَحَ بِفِنَائِهِ فَهُوَ عَلَيْهِ دَيْنٌ إنْ شَاءَ قَضَى ‏,‏ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ ‏"‏ ‏.‏

وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ خَلَا ابْنَ لَهِيعَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ ‏"‏ لَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يُضِيفُ ‏"‏ ‏.‏

إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَارِ الصَّرِيحَةِ ‏,‏ وَالْآثَارِ الصَّحِيحَةِ النَّاطِقَةِ بِوُجُوبِ الضِّيَافَةِ ‏.‏

قُلْت‏:‏ وَلَا أَعْلَمُ فِي زَوَايَا الْأَرْضِ وَجِهَاتِهَا أَشَدَّ إكْرَامًا لِلضَّيْفِ وَأَكْبَرَ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ وَاعْتِنَاءً بِالضِّيَافَةِ مَا خَلَا الْأَعْرَابَ مِنْ بِلَادِنَا وَمَا حَازَاهَا ‏,‏ وَذَلِكَ مِنْ حُدُودِ مِصْرَ إلَى صَفَدَ ‏,‏ وَكَذَا بِلَادُ حُورَانَ وَعَجْلُونَ ‏,‏ فَإِنَّك تَلْقَى فِي كُلِّ بَلْدَةٍ بَيْتًا مُخْتَصًّا بِالضِّيفَانِ ‏.‏

وَأَهْلُ تِلْكَ الْبَلْدَةِ أَبَدًا مُجْتَمَعُونَ فِي ذَلِكَ الْمَنْزِلِ مُعْتَدُّونَ لِمَنْ يَنْزِلُ بِهِمْ ‏,‏ فَإِذَا نَزَلَ بِهِمْ الضَّيْفُ أَحْضَرُوا لَهُ نُزُلَهُ فِي الْحَالِ ‏,‏ ثُمَّ يَأْخُذُونَ بِالِاهْتِمَامِ بِالِاحْتِفَالِ لَهُ وَيُكْرِمُونَهُ وَيَتَكَلَّفُونَ لَهُ مَا لَا يَتَكَلَّفُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ‏.‏

ثُمَّ يُهَيِّئُونَ لَهُ بَعْدَ أَكْلِهِ وَشُرْبِهِ الْمَنَامَ بِالْغِطَاءِ ‏,‏ وَيَعْلِفُونَ دَابَّتَهُ إنْ كَانَتْ مِنْ خَالِصِ الشَّعِيرِ ‏,‏ هَذَا لِمَنْ يَعْرِفُونَهُ وَلِمَنْ لَا يَعْرِفُونَهُ ‏,‏ فَهَذَا دَأْبُهُمْ أَبَدًا ‏.‏

أَغْدَقَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ النِّعْمَةَ ‏.‏

وَصَبَّ عَلَيْهِمْ الرَّحْمَةَ ‏,‏ فَإِنَّهُمْ عَلَى مِيرَاثِ أَبِيهِمْ الْخَلِيلِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ ‏.‏

وَأَشَدُّ النَّاسِ مِنْ هَذِهِ الْبِلَادِ اعْتِنَاءً بَذْلِكَ جَمَاعَةُ الْحَنَابِلَةِ أَتْبَاعُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ ‏,‏ فَإِنَّهُمْ أَشَدُّ خِدْمَةً لِلضَّيْفِ وَأَكْبَرُ اهْتِمَامًا وَأَعْظَمُ احْتِرَامًا ‏,‏ حَتَّى إنَّهُمْ يَخُصُّونَ الضَّيْفَ بِالطَّيِّبَاتِ وَيُهَيِّئُونَهَا لَهُ ‏.‏

وَفِي أَكْثَرِ الْمَحَالِّ لَا يَأْكُلُ أَكْثَرُ أَوْلَادِ الْكُرَمَاءِ إلَّا مَعَ الْأَضْيَافِ ‏.‏

وَأَعْرِفُ مَنْ لَا يَهْنَأُ لَهُ الْأَكْلُ وَحْدَهُ دَائِمًا أَبَدًا ‏.‏

فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يَمُنُّ عَلَيْهِمْ بِجَزِيلِ الرِّزْقِ وَكَثْرَتِهِ ‏,‏ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ آمِينَ ‏.‏

 مطلب يَنْبَغِي لِلْمُضِيفِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَ ضَيْفِهِ إلَى بَابِ الدَّارِ

الثَّالِثَ عَشَرَ‏:‏ يَنْبَغِي لِلْمُضِيفِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَ ضَيْفِهِ إلَى بَابِ الدَّارِ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إنَّ مِنْ السُّنَّةِ أَنْ يَخْرُجَ الرَّجُلُ مَعَ ضَيْفِهِ إلَى بَابِ الدَّارِ ‏"‏ ‏,‏ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما‏:‏ ‏"‏ مِنْ السُّنَّةِ إذَا دَعَوْتَ أَحَدًا إلَى مَنْزِلِك أَنْ تَخْرُجَ مَعَهُ حَتَّى يَخْرُجَ ‏"‏ ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ‏.‏

قُلْت‏:‏ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا وَأَمْثَالَهُ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ ‏.‏

‏,‏ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ مِنْ أَعْمَالِ الْجَنَّةِ ‏"‏ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه ‏,‏ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ‏:‏ زُرْتُ الْإِمَامَ أَحْمَدَ ‏,‏ فَلَمَّا دَخَلْتُ قَامَ فَاعْتَنَقَنِي وَأَجْلَسَنِي فِي صَدْرِ مَجْلِسِهِ ‏,‏ فَقُلْت‏:‏ أَلَيْسَ يُقَالُ‏:‏ صَاحِبُ الْبَيْتِ أَوْ الْمَجْلِسِ أَحَقُّ بِصَدْرِ بَيْتِهِ أَوْ مَجْلِسِهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ يَقْعُدُ وَيُقْعِدُ مَنْ يُرِيدُ ‏.‏

قَالَ‏:‏ قُلْت فِي نَفْسِي خُذْ يَا أَبَا عُبَيْدٍ فَائِدَةً ‏,‏ ثُمَّ قُلْت‏:‏ لَوْ كُنْت آتِيك عَلَى قَدْرِ مَا تَسْتَحِقُّ لَأَتَيْتُك كُلَّ يَوْمٍ ‏,‏ قَالَ‏:‏ لَا تَقُلْ ذَلِكَ ‏,‏ فَإِنَّ لِي إخْوَانًا مَا أَلْقَاهُمْ كُلَّ سَنَةٍ إلَّا مَرَّةً أَنَا أَوْثَقُ فِي مَوَدَّتِهِمْ مِمَّنْ أَلْقَى كُلَّ يَوْمٍ قُلْت‏:‏ هَذِهِ أُخْرَى يَا أَبَا عُبَيْدٍ ‏,‏ فَلَمَّا أَرَدْت الْقِيَامَ قَامَ مَعِي ‏,‏ قُلْت‏:‏ لَا تَفْعَلْ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ‏.‏

فَقَالَ‏:‏ قَالَ الشَّعْبِيُّ‏:‏ مِنْ تَمَامِ زِيَارَةِ الزَّائِرِ أَنْ تَمْشِيَ مَعَهُ إلَى بَابِ الدَّارِ وَتَأْخُذَ بِرِكَابِهِ ‏.‏

قَالَ‏:‏ قُلْت‏:‏ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَنْ عَنْ الشَّعْبِيِّ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ ‏.‏

قُلْت‏:‏ هَذِهِ ثَالِثَةٌ يَا أَبَا عُبَيْدٍ ‏.‏

‏,‏ وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما‏:‏ مَنْ أَخَذَ بِرِكَابِ رَجُلٍ لَا يَرْجُوهُ وَلَا يَخَافُهُ غُفِرَ لَهُ ‏.‏

وَمَسَكَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما رِكَابَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه ‏,‏ فَقَالَ‏:‏ أَتُمْسِكُ لِي وَأَنْتَ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ إنَّا هَكَذَا نَصْنَعُ بِالْعُلَمَاءِ ‏"‏ ‏.‏

وَاَللَّهُ تَعَالَى يُوَفِّقُ مَنْ يَشَاءُ ‏.‏

وَفُرُوعُ ذَلِكَ يَصْعُبُ اسْتِقْصَاؤُهَا ‏.‏

وَآدَابُهُ يَعْسُرُ إحْصَاؤُهَا ‏,‏ وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ ‏,‏ لِمَنْ لَاحَظَتْهُ الْعِنَايَةُ ‏.‏

وَاَللَّهُ الْمَسْئُولُ التَّوْفِيقَ ‏,‏ وَالْهِدَايَةَ لِأَقْوَمِ طَرِيقٍ ‏.‏

وَلَمَّا فَرَغَ النَّاظِمُ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ مِنْ آدَابِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ‏,‏ شَرَعَ فِي آدَابِ اللِّبَاسِ فَقَالَ‏:‏

 مطلب فِي كَرَاهِيَةِ لِبَاسِ مَا فِيهِ شُهْرَةٌ عِنْدَ النَّاسِ

وَيُكْرَهُ لُبْسٌ فِيهِ شُهْرَةُ لَابِسٍ وَوَاصِفُ جِلْدٍ لَا لِزَوْجٍ وَسَيِّدٍ ‏(‏وَيُكْرَهُ‏)‏ تَنْزِيهًا عَلَى الْأَصَحِّ ‏,‏ وَقِيلَ يَحْرُمُ ‏(‏لُبْسُ‏)‏ أَيْ لُبْسُ مَلْبُوسٍ ‏(‏فِيهِ‏)‏ أَيْ فِي ذَلِكَ الْمَلْبُوسِ ‏(‏شُهْرَةُ لَابِسٍ‏)‏ لَهُ بِمُخَالَفَةِ زِيِّ بَلَدِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ‏,‏ فَالْمُعْتَمَدُ مِنْ الْمَذْهَبِ كَرَاهِيَةُ لِبَاسِ مَا فِيهِ شُهْرَةٌ عِنْدَ النَّاسِ ‏,‏ لِمَا فِي كِتَابِ التَّوَاضُعِ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا وَكِتَابِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَنْ الشُّهْرَتَيْنِ ‏,‏ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الشُّهْرَتَانِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ رِقَّةُ الثِّيَابِ وَغِلَظُهَا ‏,‏ وَلِينُهَا وَخُشُونَتُهَا ‏,‏ وَطُولُهَا وَقِصَرُهَا ‏,‏ وَلَكِنْ سَدَادًا بَيْنَ ذَلِكَ وَاقْتِصَادًا ‏.‏

وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما مَرْفُوعًا ‏"‏ مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ‏"‏ ‏.‏

قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الْآدَابِ‏:‏ حَدِيثٌ حَسَنٌ قُلْت‏:‏ وَرَوَاهُ رَزِينٌ فِي جَامِعِهِ بِلَفْظِ ‏"‏ مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ أَلْبَسَهُ اللَّهُ إيَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ‏,‏ ثُمَّ أَلْهَبَ فِيهِ النَّارَ ‏,‏ وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ ‏,‏ قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ‏:‏ لَمْ أَرَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأُصُولِ الَّتِي جَمَعَهَا ‏,‏ وَإِنَّمَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَلَفْظُهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ فِي الدُّنْيَا أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ‏,‏ ثُمَّ أَلْهَبَ فِيهِ نَارًا ‏"‏ وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عُثْمَانَ بْنِ جَهْمٍ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه مَرْفُوعًا ‏"‏ مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ أَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى يَضَعَهُ مَتَى وَضَعَهُ ‏"‏ ‏;‏ وَلِأَنَّ لِبَاسَ الشُّهْرَةِ رُبَّمَا يُزْرِي بِصَاحِبِهِ وَيَنْقُصُ مَرُوءَتَهُ ‏.‏

وَفِي الْغُنْيَةِ لِسَيِّدِنَا الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ‏:‏ مِنْ اللِّبَاسِ الْمُنَزَّهِ عَنْهُ كُلُّ لِبْسَةٍ يَكُونُ بِهَا مُشْتَهِرًا بَيْنَ النَّاسِ كَالْخُرُوجِ عَنْ عَادَةِ بَلَدِهِ وَعَشِيرَتِهِ ‏,‏ فَيَنْبَغِي أَنْ يَلْبَسَ مَا يَلْبَسُونَ لِئَلَّا يُشَارَ إلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ ‏,‏ وَيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى حَمْلِهِمْ عَلَى غِيبَتِهِ فَيُشْرِكَهُمْ فِي إثْمِ الْغِيبَةِ لَهُ انْتَهَى ‏.‏

قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى‏:‏ وَيَدْخُلُ فِي الشُّهْرَةِ خِلَافُ الْمُعْتَادِ مَنْ لَبِسَ شَيْئًا مَقْلُوبًا أَوْ مُحَوَّلًا كَجُبَّةٍ وَقَبَاءٍ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ أَهْلِ الْجَفَاءِ وَالسَّخَافَةِ وَالِانْخِلَاعِ ‏.‏

وَفِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى‏:‏ يُكْرَهُ فِي غَيْرِ حَرْبٍ إسْبَالُ بَعْضِ لِبَاسِهِ فَخْرًا وَخُيَلَاءَ ‏,‏ وَبَطَرًا وَشُهْرَةً وَخِلَافُ زِيِّ بَلَدِهِ بِلَا عُذْرٍ‏.‏ وَقِيلَ يَحْرُمُ ذَلِكَ ‏,‏ وَهُوَ أَظْهَرُ ‏.‏

انْتَهَى ‏.‏

وَالْقَوْلُ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ خُيَلَاءَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه ‏,‏ وَهُوَ الْمَذْهَبُ قَطَعَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ ‏,‏ وَقَطَعَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ ‏,‏ وَالْمُنْتَهَى وَغَيْرِهِمَا ‏,‏ وَعِبَارَةُ الْإِقْنَاعِ‏:‏ وَيَحْرُمُ ‏,‏ وَهُوَ كَبِيرَةٌ إسْبَالُ شَيْءٍ مِنْ ثِيَابِهِ ‏,‏ وَلَوْ عِمَامَةً خُيَلَاءَ فِي غَيْرِ حَرْبٍ ‏,‏ فَإِنْ أَسْبَلَ ثَوْبَهُ لِحَاجَةٍ كَسَتْرِ سَاقٍ قَبِيحٍ مِنْ غَيْرِ خُيَلَاءَ أُبِيحَ ‏,‏ مَا لَمْ يُرِدْ التَّدْلِيسَ عَلَى النِّسَاءِ ‏,‏ وَمِثْلُهُ قَصِيرَةٌ اتَّخَذَتْ رِجْلَيْنِ مِنْ خَشَبٍ فَلَمْ تُعْرَفْ انْتَهَى ‏.‏

وَنَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ ثَوْبُ الشُّهْرَةِ ‏,‏ فَإِنَّهُ رَأَى رَجُلًا لَابِسًا بُرْدًا مُخَطَّطًا بَيَاضًا وَسَوَادًا ‏,‏ فَقَالَ‏:‏ ضَعْ هَذَا ‏,‏ وَالْبَسْ لِبَاسَ أَهْلِ بَلَدِك ‏,‏ وَقَالَ‏:‏ لَيْسَ هُوَ بِحَرَامٍ ‏,‏ وَلَوْ كُنْت بِمَكَّةَ ‏,‏ أَوْ الْمَدِينَةِ لَمْ أَعِبْ عَلَيْك ‏.‏

قَالَ النَّاظِمُ رَحِمَهُ اللَّهُ‏:‏ لِأَنَّهُ لِبَاسُهُمْ هُنَاكَ انْتَهَى ‏.‏

وَفِي الْفُرُوعِ‏:‏ وَتُكْرَهُ شُهْرَةٌ وَخِلَافُ زِيِّ بَلَدِهِ ‏,‏ وَقِيلَ يَحْرُمُ وَنَصُّهُ لَا ‏.‏

قَالَ شَيْخُنَا ‏,‏ يَعْنِي بِهِ شَيْخَ الْإِسْلَامِ‏:‏ تَحْرُمُ شُهْرَةٌ ‏,‏ وَهُوَ مَا قُصِدَ بِهِ الِارْتِفَاعُ وَإِظْهَارُ التَّوَاضُعِ كَمَا كَانَ السَّلَفُ يَكْرَهُونَ الشُّهْرَتَيْنِ مِنْ اللِّبَاسِ الْمُرْتَفِعِ ‏,‏ وَالْمُنْخَفِضِ ‏;‏ وَلِهَذَا فِي الْخَبَرِ ‏"‏ مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ ‏"‏ فَعَاقَبَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِهِ يُكْرَهُ ‏,‏ وَلَيْسَ بِمُرَادٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ ‏,‏ فَإِنَّ هَذَا مِنْ الرِّيَاءِ انْتَهَى ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ‏:‏ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنه‏:‏ مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ أَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ ‏,‏ وَإِنْ كَانَ وَلِيًّا ‏.‏

وَتَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا مَعْنَاهُ ‏,‏ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَيْضًا‏:‏ كَانَ يُقَالُ‏:‏ كُلْ مِنْ الطَّعَامِ مَا اشْتَهَيْتَ ‏,‏ وَالْبَسْ مِنْ الثِّيَابِ مَا اشْتَهَى النَّاسُ ‏.‏

وَعَقَدَ ذَلِكَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ إنَّ الْعُيُونَ رَمَتْكَ مُذْ فَاجَأْتَهَا وَعَلَيْكَ مِنْ شَهْرِ اللِّبَاسِ لِبَاسُ أَمَّا الطَّعَامُ فَكُلْ لِنَفْسِكَ مَا اشْتَهَتْ وَاجْعَلْ لِبَاسَك مَا اشْتَهَاهُ النَّاسُ وَكَانَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ يَقُولُ‏:‏ الْبَسُوا ثِيَابَ الْمُلُوكِ وَأَمِيتُوا قُلُوبَكُمْ بِالْخَشْيَةِ ‏.‏

وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ‏:‏ إنَّ قَوْمًا جَعَلُوا خُشُوعَهُمْ فِي لِبَاسِهِمْ ‏,‏ وَكِبْرَهُمْ فِي صُدُورِهِمْ وَشَهَرُوا أَنْفُسَهُمْ بِلِبَاسِ الصُّوفِ ‏,‏ حَتَّى إنَّ أَحَدَهُمْ بِمَا يَلْبَسُ مِنْ الصُّوفِ أَعْظَمُ كِبْرًا مِنْ صَاحِبِ الْمِطْرَفِ بِمِطْرَفِهِ ‏.‏

وَمِنْ هَذَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ - وَقَدْ أَحْسَنَ - تَصَوَّفَ فَازْدَهَى بِالصُّوفِ جَهْلًا وَبَعْضُ النَّاسِ يَلْبَسُهُ مَجَانَهْ يُرِيدُ مُهَانَةً وَيُرِيدُ كِبْرًا وَلَيْسَ الْكِبْرُ مِنْ شَأْنِ الْمَهَانَهْ تَصَنَّعَ كَيْ يُقَالَ لَهُ أَمِينٌ مَا يُغْنِي التَّصَنُّعُ لِلْأَمَانَهْ وَلَمْ يُرِدْ الْإِلَهَ بِهَا وَلَكِنْ أَرَادَ بِهَا الطَّرِيقَ إلَى الْخِيَانَهْ ‏,‏ وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ‏:‏ قُلْت لِإِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ‏:‏ مَا الْمَرُوءَةُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَمَّا فِي بَلَدِك فَالتَّقْوَى ‏,‏ وَأَمَّا حَيْثُ لَا تُعْرَفُ فَاللِّبَاسُ ‏.‏

وَرَوَى بَقِيَّةُ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ بَلَغَنِي أَنَّ لِبَاسَ الصُّوفِ فِي السَّفَرِ سُنَّةٌ وَفِي الْحَضَرِ بِدْعَةٌ

 مطلب فِي حُكْمِ لُبْسِ مَا يَصِفُ الْبَشَرَةَ

‏(‏و‏)‏ يُكْرَهُ لِبَاسٌ ‏(‏وَاصِفٌ‏)‏ - ذَلِكَ اللِّبَاسَ - لَوْنَ ‏(‏جِلْدٍ‏)‏ لِلَابِسِهِ مِنْ بَيَاضِ الْجِلْدِ وَسَوَادِهِ وَحُمْرَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ‏,‏ بِلَا فَرْقٍ بَيْنَ الرَّجُلِ ‏,‏ وَالْمَرْأَةِ ‏,‏ وَلَوْ فِي بَيْتِهَا ‏(‏لَا‏)‏ يُكْرَهُ لَهَا إنْ وَصَفَ بَشَرَتَهَا ‏(‏لِزَوْجٍ‏)‏ لَهَا لِإِبَاحَةِ نَظَرِهِ إلَى جَمِيعِ بَدَنِهَا ‏(‏و‏)‏ كَذَا لَا يُكْرَهُ لُبْسُهَا رَقِيقًا يَصِفُ بَشَرَتَهَا لِ ‏(‏سَيِّدٍ‏)‏ لَهَا حَيْثُ كَانَ يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا لِعَدَمِ الْمَحْذُورِ وَإِبَاحَةِ النَّظَرِ إذَنْ لِجَمِيعِ بَدَنِهَا ‏.‏

وَفِي غَايَةِ الْعَلَّامَةِ الشَّيْخِ مَرْعِيٍّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَكُرِهَ لَهُمَا يَعْنِي الذَّكَرَ ‏,‏ وَالْأُنْثَى لُبْسُ مَا يَصِفُ الْبَشَرَةَ ‏.‏

وَلَهَا يَعْنِي وَكُرِهَ لِلْمَرْأَةِ لُبْسُ مَا يَصِفُ الْحَجْمَ ‏.‏

قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ كَغَيْرِهِ‏:‏ وَيُكْرَهُ لِلنِّسَاءِ مَا يَصِفُ اللِّينَ ‏,‏ وَالْخُشُونَةَ ‏,‏ وَالْحَجْمَ ‏.‏

وَاسْتَوْجَهَ فِي الْغَايَةِ تَحْرِيمَ لُبْسِ مَا يَصِفُ الْبَشَرَةَ مُفْرَدًا انْتَهَى ‏.‏

قُلْت‏:‏ وَصَرَّحَ بِعَدَمِ جَوَازِ لُبْسِهِ أَبُو الْمَعَالِي كَمَا فِي شَرْحِ الْوَجِيزِ ‏.‏

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه‏:‏ أَكْرَهُ الرَّقِيقَ لِلْحَيِّ ‏,‏ وَالْمَيِّتِ ‏.‏

‏,‏ وَإِنْ كَانَ يُبْدِي عَوْرَةً لِسِوَاهُمَا فَذَلِكَ مَحْظُورٌ بِغَيْرِ تَرَدُّدِ ‏(‏وَإِنْ كَانَ‏)‏ اللِّبَاسُ خَفِيفًا ‏(‏يُبْدِي‏)‏ لِرِقَّتِهِ وَعَدَمِ سَتْرِهِ ‏(‏عَوْرَةً‏)‏ لِلَابِسِهِ مِنْ ذَكَرٍ ‏,‏ أَوْ أُنْثَى ‏(‏لِسِوَاهُمَا‏)‏ يَعْنِي لِسِوَى الزَّوْجِ وَالسَّيِّدِ الَّذِي تَحِلُّ لَهُ ‏(‏فَذَلِكَ‏)‏ اللِّبَاسُ ‏(‏مَحْظُورٌ‏)‏ أَيْ مَمْنُوعٌ مُحَرَّمٌ عَلَى لَابِسِهِ لِعَدَمِ سَتْرِهِ لِلْعَوْرَةِ الْمَأْمُورِ بِسَتْرِهَا شَرْعًا ‏(‏بِغَيْرِ تَرَدُّدٍ‏)‏ أَيْ بِلَا شَكٍّ وَلَا خِلَافٍ ‏.‏

قَالَ فِي الشَّرْحِ‏:‏ إذَا كَانَ خَفِيفًا يَصِفُ لَوْنَ الْبَشَرَةِ فَيَبِينُ مِنْ وَرَائِهِ بَيَاضُ الْجِلْدِ ‏,‏ أَوْ حُمْرَتُهُ لَمْ تَجُزْ الصَّلَاةُ بِهِ ‏.‏

وَإِنْ كَانَ يَسْتُرُ اللَّوْنَ وَيَصِفُ الْخِلْقَةَ جَازَتْ الصَّلَاةُ فِيهِ ‏;‏ لِأَنَّ الْبَشَرَةَ مَسْتُورَةٌ ‏,‏ وَهَذَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ انْتَهَى ‏,‏ وَقَدْ وَرَدَ عَنْ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم عِدَّةُ أَخْبَارٍ فِي النَّهْيِ عَنْ لُبْسِ النِّسَاءِ الرَّقِيقَ مِنْ الثِّيَابِ الَّتِي تَصِفُ الْبَشَرَةَ ‏,‏ فَقَدْ رَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَاللَّفْظُ لَهُ ‏,‏ وَالْحَاكِمُ ‏,‏ وَقَالَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ‏:‏ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ‏"‏ يَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي نِسَاءٌ يَرْكَبْنَ عَلَى سُرُجٍ كَأَشْبَاهِ الرِّجَالِ يَنْزِلُونَ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ ‏,‏ نِسَاؤُهُمْ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ ‏,‏ عَلَى رُءُوسِهِنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْعِجَافِ ‏.‏

الْعَنُوهُنَّ ‏,‏ فَإِنَّهُنَّ مَلْعُونَاتٌ لَوْ كَانَ وَرَاءَكُمْ أُمَّةٌ مِنْ الْأُمَمِ خَدَمَتْهُنَّ نِسَاؤُكُمْ كَمَا خَدَمَكُمْ نِسَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ ‏"‏ ‏.‏

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا‏:‏ قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ ‏,‏ وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ ‏,‏ رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ ‏,‏ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا ‏,‏ وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا ‏,‏ وَكَذَا ‏"‏ ‏.‏

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها ‏"‏ أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنهما دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ رِقَاقٌ ‏,‏ فَأَعْرَضَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏,‏ وَقَالَ‏:‏ يَا أَسْمَاءُ إنَّ الْمَرْأَةَ إذَا بَلَغَتْ الْمَحِيضَ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إلَّا هَذَا وَهَذَا ‏,‏ وَأَشَارَ إلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ ‏"‏ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ‏,‏ وَقَالَ‏:‏ هَذَا مُرْسَلٌ خَالِدُ بْنُ دُرَيْكٍ لَمْ يُدْرِكْ عَائِشَةَ رضي الله عنها ‏.‏

 مطلب فِي أَنَّ خَيْرَ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا

وَخَيْرَ خِلَالِ الْمَرْءِ جَمْعًا تَوَسُّطُ الْأُمُورِ وَحَالٌ بَيْنَ أَرْدَى وَأَجْوَدِ و ‏(‏خَيْرُ‏)‏ مُبْتَدَأٌ ‏(‏خِلَالِ‏)‏ جَمْعُ خَلَّةٍ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ ‏,‏ وَهِيَ الْخَصْلَةُ ‏,‏ أَيْ خَيْرُ خِصَالِ ‏(‏الْمَرْءِ‏)‏ أَيْ الْإِنْسَانِ مِنْ الذُّكُورِ ‏,‏ وَالْإِنَاثِ ‏(‏جَمْعًا‏)‏ أَيْ كُلِّهَا ‏(‏تَوَسُّطُ‏)‏ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ وَ ‏(‏الْأُمُورِ‏)‏ مَجْرُورٌ بِالْإِضَافَةِ أَيْ أَفْضَلُ شُؤُونِ الْإِنْسَانِ مُرَاعَاةُ الْوَسَطِ بَيْنَ الْخُشُونَةِ وَالنُّعُومَةِ ‏,‏ وَالرَّقِيقِ الشَّفَّافِ مِنْ الثِّيَابِ ‏,‏ وَالصَّفِيقِ الْخَشِنِ مِنْهَا ‏,‏ فَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا ‏(‏وَحَالٌ بَيْنَ‏)‏ حَالَيْنِ ‏(‏أَرْدَى وَأَجْوَدِ‏)‏ فَيَكُونُ بَيْنَ طَرَفَيْ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ ‏.‏

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ‏:‏ الْوَسَطُ مُحَرَّكَةً مِنْ كُلِّ شَيْءٍ‏:‏ أَعْدَلُهُ ‏.‏

قَالَ تَعَالَى ‏{‏جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا‏}‏ أَيْ عَدْلًا ‏.‏

وَذَكَرَهُ فِي الْقَامُوسِ أَيْضًا ‏,‏ وَقَالَ‏:‏ وَوَسَطُ الشَّيْءِ مُحَرَّكَةً ‏,‏ مَا بَيْنَ طَرَفَيْهِ كَأَوْسَطِهِ ‏,‏ فَإِذَا سُكِّنَتْ كَانَتْ ظَرْفًا ‏,‏ أَوْ هُمَا فِيمَا هُوَ مُصْمَتٌ كَالْحَلْقَةِ ‏,‏ فَإِذَا كَانَتْ أَجْزَاؤُهُ مُتَبَايِنَةً فَبِالْإِسْكَانِ فَقَطْ ‏,‏ أَوْ كُلُّ مَوْضِعٍ صَلُحَ فِيهِ بَيْنٌ فَهُوَ بِالتَّسْكِينِ وَإِلَّا فَبِالتَّحْرِيكِ ‏.‏

انْتَهَى ‏.‏

وَدَلِيلُ هَذَا يَعْنِي اخْتِيَارَ حَالَةِ التَّوَسُّطِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ ‏,‏ وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي شُؤُونٍ شَتَّى ‏,‏ مِثْلُ ‏{‏وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً‏}‏ ‏{‏وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا‏}‏‏.‏

{‏وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا‏}‏{‏وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ

وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ‏}‏ ‏,‏ وَالْقَصْدُ مَا بَيْنَ الْإِسْرَافِ وَالتَّقْتِيرِ ‏.‏

وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي يَعْفُورٍ قَالَ‏:‏ سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَسْأَلُهُ رَجُلٌ مَا أَلْبَسُ مِنْ الثِّيَابِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ مَا لَا يَزْدَرِيكَ فِيهِ السُّفَهَاءُ وَيَعِيبُكَ بِهِ الْحُكَمَاءُ ‏.‏

قَالَ مَا هُوَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ بَيْنَ الْخَمْسَةِ دَرَاهِمَ إلَى الْعِشْرِينَ دِرْهَمًا ‏.‏

وَفِي كِتَابِ الْغِيبَةِ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ سَيِّدَةِ النِّسَاءِ فَاطِمَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهَا ‏,‏ وَالطَّبَرَانِيِّ فِي الْكَبِيرِ ‏,‏ وَالْأَوْسَطِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا ‏"‏ شِرَارُ أُمَّتِي الَّذِينَ غُذُّوا بِالنَّعِيمِ ‏,‏ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَلْوَانَ الطَّعَامِ ‏,‏ وَيَلْبَسُونَ أَلْوَانَ الثِّيَابِ ‏,‏ وَيَتَشَدَّقُونَ فِي الْكَلَامِ ‏"‏ هَذَا لَفْظُ حَدِيثِ سَيِّدَتِنَا فَاطِمَةَ ‏.‏

وَلَفْظُ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ ‏"‏ سَيَكُونُ رِجَالٌ مِنْ أُمَّتِي يَأْكُلُونَ أَلْوَانَ الطَّعَامِ ‏,‏ وَيَشْرَبُونَ أَلْوَانَ الشَّرَابِ وَيَلْبَسُونَ أَلْوَانَ الثِّيَابِ ‏,‏ وَيَتَشَدَّقُونَ فِي الْكَلَامِ ‏,‏ فَأُولَئِكَ شِرَارُ أُمَّتِي ‏"‏ وَهُمَا ضَعِيفَانِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِمَا الْمُنْذِرِيُّ رحمه الله تعالى ‏.‏

وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الصَّحَابَةِ يُقَالُ لَهُ عُبَيْدٌ قَالَ‏:‏ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْإِرْفَاهِ قَالَ فِي فَتْحِ الْبَارِي‏:‏ الْإِرْفَاهُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَبِفَاءٍ آخِرَهُ هَاءٌ ‏,‏ التَّنَعُّمُ وَالرَّاحَةُ ‏.‏

وَمِنْهُ الرَفَهُ بِفَتْحَتَيْنِ ‏.‏

وَقُيِّدَ فِي الْحَدِيثِ بِالْكَثْرَةِ إشَارَةً إلَى أَنَّ الْوَسَطَ الْمُعْتَدِلَ مِنْهُ لَا يُذَمُّ ‏.‏

وَبِذَلِكَ جُمِعَ بَيْنَ الْأَخْبَارِ ‏.‏

انْتَهَى ‏.‏

وَقَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ رحمه الله تعالى‏:‏ يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَتَوَسَّطَ فِي مَلْبَسِهِ وَنَفَقَتِهِ وَلْيَكُنْ إلَى التَّقْلِيلِ أَمْيَلَ ‏,‏ فَإِنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ إلَيْهِ ‏.‏

وَيَنْبَغِي الِاحْتِرَازُ مِمَّا يُقْتَدَى فِيهِ بِهِ ‏,‏ فَإِنَّهُ مَتَى تَرَخَّصَ فِي الدُّخُولِ عَلَى السَّلَاطِينِ وَجَمْعِ الْحُطَامِ فَاقْتَدَى بِهِ غَيْرُهُ كَانَ الْإِثْمُ عَلَيْهِ ‏,‏ وَرُبَّمَا سَلِمَ هُوَ فِي دُخُولِهِ وَلَمْ يَفْقَهُوا كَيْفِيَّةَ سَلَامَتِهِ ‏.‏

وَمُقْتَضَى كَلَامِ ابْنِ الْبَنَّا أَنَّهُ لَا إثْمَ عَلَيْهِ ‏,‏ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

 مطلب فِي كَرَاهَةِ لُبْسِ مَا فِيهِ صُورَةُ حَيَوَانٍ

وَلُبْسَ مِثَالِ الْحَيِّ فَاحْظُرْ بِأَجْوَدِ وَمَا لَمْ يُدَسْ مِنْهَا لِوَهْنٍ فَشَدِّدْ ‏(‏وَلُبْسَ‏)‏ لِبَاسٌ فِيهِ صُوَرُ ‏(‏مِثَالِ‏)‏ الْحَيَوَانِ ‏(‏الْحَيِّ‏)‏ بِمَا يُشْبِهُ مَا فِيهِ رُوحٌ مِنْ طَيْرٍ وَغَيْرِهِ ‏,‏ وَالْمُرَادُ مَعَ سَلَامَةِ رَأْسِ الصُّورَةِ ‏(‏فَاحْظُرْ‏)‏ أَيْ امْنَعْ ذَلِكَ لِحُرْمَتِهِ ‏(‏بِأَجْوَدِ‏)‏ الْقَوْلَيْنِ ‏.‏

قَالَ فِي الْفُرُوعِ‏:‏ وَيَحْرُمُ عَلَى الْكُلِّ - يَعْنِي الذُّكُورَ ‏,‏ وَالْإِنَاثَ - لُبْسُ مَا فِيهِ صُورَةُ حَيَوَانٍ ‏.‏

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ‏:‏ لَا يَنْبَغِي كَتَعْلِيقِهِ وَسَتْرِ الْجُدُرِ بِهِ وَتَصْوِيرِهِ بِاتِّفَاقِ الْأَرْبَعَةِ ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ لَا يَحْرُمُ ‏,‏ وَذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَشَيْخُنَا ‏.‏

انْتَهَى يَعْنِي شَيْخَ الْإِسْلَامِ ‏,‏ وَالْمُعْتَمَدُ الْحُرْمَةُ ‏,‏ وَجَزَمَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ ‏,‏ وَالْمُنْتَهَى وَغَيْرِهِمَا ‏.‏

وَعِبَارَةُ الْإِقْنَاعِ‏:‏ وَيَحْرُمُ عَلَى ذَكَرٍ وَأُنْثَى لُبْسُ مَا فِيهِ صُورَةُ حَيَوَانٍ وَتَعْلِيقُهُ وَسَتْرُ الْجُدُرِ بِهِ وَتَصْوِيرُهُ‏:‏ بَلْ هُوَ كَبِيرَةٌ حَتَّى فِي سِتْرٍ وَسَقْفٍ وَحَائِطٍ وَسَرِيرٍ وَنَحْوِهَا انْتَهَى ‏.‏

وَتَقَدَّمَ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ طَرَفٌ مِنْ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ وَاسْتِعْمَالِ الصُّوَرِ ‏.‏

وَصَحَّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ مَنْ صَوَّرَ صُورَةً كُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ وَعُذِّبَ ‏"‏ ‏.‏